
ون كليك نيوز : الخرطوم
نفتح نافذة من خلال ون كليك نيوز للتوثيق لعظماء بلادي في المجال الثقافي والفني والأدبي علنا نرد اليهم وقد رحلوا نذرا يسيرا من عطائهم المتوارث ولتكن البداية بالشاعر الفذ الصادق الياس :
ولد الشاعر الصادق الياس بالجريف غرب عام 1938م وعندما اشتد ساعده وقوي عوده الحقه والده بخلوة الفكي علي بالجريف ومكث بها سبع سنوات ، ومن الخلوة انتقل إلى كتّاب الجريف ، وبعد إكمال عامه الرابع ترك المدرسة والتحق بالمنطقة الصناعية الخرطوم وتعلَّم حرفة النجارة على يد خوجلي أبو الجاز والأمين أحمد الحاج وسرعان ما أصبح فيها نجاراً مشهوراً . بدأ حياته الفنية عاشقاً للغناء منذ أن كان صغيراً وكان الأطفال يجتمعون حوله ليغني لهم أغنية (الزيارة) لإبراهيم الكاشف و(كان بدري عليك) للفنان عمر أحمد ثم انتقل بعد ذلك لمرحلة أخرى في بداية عام 1957 وحينها اشتهر بمنولوجست الجريف ، حيث كان يكتب الأشعار على أوزان الأغنيات فكتب عن المواصلات ما يوازي أغنية أحمد المصطفى (أيام بتمر ووراها ليالي) فكتب ما يوازيها (عربات بتمر ووراها لواري وأنا يا ناس ماشي كداري) وكتب أيضاً عن (الفلس) ما يوازي أغنية فاطمة الحاج (لي حبيب شاغل بالي ) كتب (أنا الفلس شاغل بالي ودايماً محطم آمالي) وكانت جميع هذه المنولوجات يقدمها في الحفلات المدرسية وفي منازل الأفراح واستمر يكتب المنولوجات حتى عام 1960م . بعد ذلك شعر أن المنولوج صعب التأليف وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يقدمه أكثر من مرة أو مرتين في المناسبات ، فالناس تمله لو قدم أكثر من ذلك ووجد أن الفكاهة أصعب أنواع الفنون على الإطلاق فاتجه عام 1961َم لكتابة الشعر وكانت له قبل هذا التأريخ محاولات عديدة حيث كتب العديد من القصائد .
أول لقاء للشاعر الصادق الياس مع الفنان أحمد الجابري
في تلك الفترة كان معجباً به وعن طريق الصدفة التقى به بشارع الشنقيطي بأمدرمان عام 1962م ، فاستوقفه وعبَّر له عن إعجابه بأغنياته وأخبره بأنه شاعر له محاولات في الشعر الغنائي ويتمنى أن يتعاون معه . رحب به الجابري ودعاه إلى زيارته في منزله بحي العرب ، بعد أيام شد شاعرنا الرحال إلى منزل الجابري وسلَّمه مولوده الشعري الأول أغنية “رسايل” .
من طرف الحبيب جات أغرب رسائل
يحكي عتابه فيها وقال ناسينه قايل
يا ما قال حكاوي ما خطرت ببالي
قال في كلمة إني جفيت وسالي
لو في كل لحظة لو تعلم بحالي
ما ناسيك والله ذكراك شاغلة بالي
لو انساك إنت اكون غدار وخنت
أسال عني غيري واحكم في مصيري
يا ما تشوف دلايل
يا ما قال كلام ما لي دخل بيه
إني بروح لغيره بهوا وبصتفيه
إنشاء الله حياتي تفنى لو فكرت فيه
بدل أشواق ومحنة ترسل لي مظنة
كلام يجرح شعوري وما يريح ضميري
من زول عنو سائل
من طرف الحبيب جات أغرب رسائل
يحكي عتابه فيها وقال ناسينه قايل
يقول شاعرنا : كنت متردد وخائف لحظتها من عدم قبوله القصيدة لكنني شعرت بأن الجابري أثناء قراءتي لها كان مهتماً ومستمعاً جيداً مما جعلني أقرأ بتمعن وبعد أن انتهيت من قراءتها قال لي : هذه قصيدة جميلة وسأقوم بتلحينها قريباً . لحظتها شعرت بفرح شديد وكانت لحظة تأريخية أن يغني الجابري من كلماتي بعد أن غنى في ذلك الزمان العديد من أغنيات الشاعر عبد الرحمن الريح . وتعد (رسايل) أول أغنية يقوم الجابري بتلحينها في مسيرته الفنية ، بل وشارك بها في مسابقة للتلفزيون كان ينظمها كل سبت في برنامجه (من الأغنيات الجديدة) إلى جانب (وشاية) للفنان إبراهيم عوض و(في القطار أنا قلبي طار) للفنان صالح سعد .
وقال شاعرنا في العاشرة مساء ذهبت لنادي العمال بالخرطوم لحضور البرنامج . وبعد أن أدى الفنانون الثلاثة أغنياتهم كنت ارتجف خوفاً وفرحاً ، خوفاً من (وشاية) لإبراهيم عوض التي كانت مرشحة لنيل المركز الأول وفرحاً لأن مقدم البرنامج عندما قدم الفنان أحمد الجابري نطق اسمي قائلاً : أغنية (رسايل) للشاعر الصادق الياس ، مقدم البرنامج تحدث طويلاً قبل أن يعلن النتيجة مما جعل المشاهدين في حالة ترقب وانتظار قبل أن يقول بعد مداولات اللجنة اتضح لنا أن أغنية (وشاية) وأغنية (رسايل) في مستوى واحد ، فاعتبرت اللجنة الأغنيتين فائزتين .
نجاح أغنية “رسايل” أعطى الصادق الياس دفعة قوية لكتابة الشعر أو كما يقول : (كانت فاتحة خير عليّ) حيث تم تسجيلها للإذاعة وكانت تبث ثلاث مرات في اليوم مما جعله يكتب للجابري بعدها (الجريف واللوبيا) و(هاتو الياسمين) فتغنى بهما قبل أن يترك الغناء لمدة عامين حزناً على وفاة والدته التي حدثت في غيابه ، حيث كان مشاركاً في حفل غنائي بالخرطوم ، يقول شاعرنا : أنا لم أر في حياتي شخص يحب أمه وأمه تحبه أكثر من أحمد الجابري لذلك كان من الصعب علينا إعادته للغناء مرة أخرى . في يوم من الأيام ذهبت إليه وبعض الأصدقاء في منزله وأخرجت قصيدة (حكاية ملام) وأطلعتها عليه ، أمسك بالورقة وبدأ يقرأ القصيدة إلى أن وصل البيت الذي يقول :
يا ريت اللوم يرجعني
ويرجع حالي لي حالو
وألم الباقي من عمري
وأجيب البال من الشالو
وأخت أحزاني وأتريح
بكى الجابري بكاءً حاراً بعدها قال لي : أنا لم أكن أنوي العودة إلى الغناء مرة أخرى لكنني بعد أن قرأت كلمات هذه القصيدة وجدت فيها ما أحب أن أقوله للناس . وحينها أمسك الجابري بالعود وبدأ في تلحين الأغنية وفي اليوم التالي ذهب إلى الإذاعة بعد غياب طويل واستقبل استقبالاً رائعاً فرحين بعودته إلى الغناء بعد عامين من الحزن ، فتغنى بهذه الأغنية لأول مرة في برنامج (صالة العرض) الذي كان يقدمه الأستاذ علم الدين حامد ، وهكذا عاد الجابري إلى الغناء مرة أخرى بفضل الله وكلمات أغنية (حكاية ملام) .
اخت اللوم علي نفسي
و لا اتحسر علي عمري
ولا اكوس مكاني الراح
مع الغائبين فضل يجري
اخت اللوم علي نفسي
و ارجع اقول انا الغلطان
ما شفنا الندامة تفيد
تفيد زولا رجع ندماان
رجعت اكوس مكاني الفات
و عاد كيفن الاحق الفات
و الاحق الريح وقت يجري
حكايتي مع الملام طالت
و ديمة اعيدا اتأسف
فاقد محبوب علي مكتوب
اقش في دمعي ما اتجفف
متين يا غيمة ترمى الضل..؟
و افر البسمة زى الكل
تهل البهجة فوقي تطل
و اكون نوال جزيل صبري
يا ريت اللوم يرجعني
و يرجع حالي لي حالو
و الم الباقي من عمري
و اجيب البال من الشالو
و اخت احزاني و اتريّح
اصلو البي ما ريّح
و احش مشواري من بدري
اخت اللوم علي نفسي
و لا اتحسر على عمري
لعبت الصدفة دوراً كبيراً أيضاً في أن يلتقي شاعرنا الصادق الياس بالمطرب الكبير صلاح بن البادية ، حيث تصادف وجود الاثنان في أحد شوارع بري ولم يكن بن البادية يعرف الصادق الياس ، تقدم نحوه شاعرنا وعرَّفه بنفسه وقال له : أنا شاعر تغنى بكلماتي أحمد الجابري وأتمنى أن تغني أغنية من كلماتي ، رحب به ابن البادية وبالتعاون معه فما كان منه إلا وأن أخرج ورقة من جيبه مكتوب عليها أغنية (الباقي باقي , واصلو دنيا الحب محن) قرأها عليه وأعجب بها ابن البادية إعجاباً شديداً ووجه له الدعوة لزيارته في منزله بعد أسبوع ليستمع إلى الكلمات وهي ملحنة .
تسألوني عن حبيبي وعن حكاياتو البقن
وعن مشاويرو الطويلة الليها وداني الزمن
اعمل ايه ما الباقي باقي واصلو دنيا الحب محن
تسألوني الف مرة ايه اقول ما عندي حيلة
اسالوه هو مرة عن حكاياتو الطويلة
ليالي الغيبة عندي ليلتن زي الف ليلة
كلموه بكل طيبة يمكن الافراح يجيبا
حبي كان مكتوب علي امشي فيه برضاي
عمري ما فكرت مرة في مصير او نهاية
قلت في الخير والشدائد انت بتقاسم معاي
الاماني السمحة ضاعت ولسه في احساسي جايا
لا مسلم للمحن ولا بغيرني الزمن
في الحقيقة الباقي باقي والمقدر كلو صائب
راح اعيش العمر بعدك ما بشوف غيرك حبائب
ما بغيرني اللي حاصل وما بترعشني المصائب
انت عائش في وجودي لو معاي ولا غائب
شلتو حبك وانكمن ليه وداني الزمن
كانت هذه الأغنية هي بداية التعاون بينه وبين ابن البادية والذي امتد بعد ذلك لأكثر من 10 أغنيات منها من تغنى بها ابن البادية مثل (المقادير) ، (تعال يا ليل) ، (ليالي الصبر) ، (سكة شوق) ومنها من أهداها ابن البادية بعد أن وضع الألحان لها وتغنى بها الفنان الأمين عبد الغفار (قصة الشوق يا حيارى) ، (حب الناس يحبوك) ، (جيتنا من وين يا هنا) كذلك تغنى بكلماته العديد من المطربين على سبيل المثال لا الحصر : عبد العزيز محمد داؤود (يا بلادي الديمة من البال قريبة) وغنى علي إبراهيم (شوف عيني الحبيب بحشمة لابس التوب) وزكي عبد الكريم (يا بسام) والطيب عبدالله (مسكينة المحبة) وخوجلي عثمان (فرح الطفولة) وندى القلعة (غيرت رايك ) وسيد خليفة (آمال في الرمال) والعديد من المطربين الآخرين .
كتب شاعرنا الصادق الياس العديد من المدائح النبوية من بينها (يا الداير العبادة آمن بالإرادة) وغنى له الفنان عصام محمد نور (أرض الحجاز فيك مكة) كذلك كتب العديد من القصائد الوطنية من بينها (عوافي للمداين والفيافي) وهي عن استقلال السودان تغنى بها صلاح مصطفى . وكتب للأطفال (أنا طالبة شاطرة شطارة) وتلاميذ المدارس التي تغنى بها قريباً صلاح بن البادية.
كتابة الشعر عند الصادق الياس لا زمان ولا مكان لها أهم شئ عنده الموضوع حينما يلح عليه يتم تخزينه في الذاكرة ليخرج في وقت ما ، ربما في الحافلة أو في البص . الصادق الياس يتميز بلونية وبصمة عرفه الناس من خلالها وهذا يعود إلى تأثير البيئة الريفية التي عاش فيها فهو يستخدم العبارات السهلة التي تدخل إلى القلوب مباشرة .
تأثر الصادق الياس ببيئته الريفية التي نشأ وترعرع فيها ولذلك لم يكن غريباً أن تحمل أشعاره الكثير من معاني الشهامة والبساطة والمثل والأخلاق والتسليم بقدر الله في كل شيء وهو من الشعراء الذين ظلوا وعلى الدوام وفي جميع أغنياته يعيد اكتشاف الحكم والموروثات الثقافية والقيم السودانية النبيلة .
توفي الشاعر البارز الصادق إلياس يوم الثلاثاء الموافق 11 يوليو 2023م عن عمر ناهز 75 عامًا بعد معاناة طويلة مع المرض .
له الرحمة والمغفرة