
الخرطوم : ون كليك نيوز
سامي دفع الله يكتب : ( صمت الحكومة وصوت الكارثة )
شهد السودان مؤخرا العديد من الكوارث سواء في الخارج عبر حوادث الهجرة أو في الداخل عبر الكوارث الطبيعية.
فقد أشارت منظمة الهجرة الدولية (IOM) إلى غرق عشرات المهاجرين السودانيين قبالة السواحل الليبية في مأساة متكررة تعكس يأس الشباب من واقعهم المحلي وسعيهم المحفوف بالمخاطر وراء فرص جديدة.
وفي الداخل شكّل الانهيار الأرضي في ترسين بجبل مرة صدمة إضافية حيث أفادت تقارير أممية بوجود مئات الضحايا في واحدة من أكثر الكوارث الطبيعية قسوة على المجتمع المحلي.
ولا تقتصر المآسي على الحوادث المفاجئة وحدها فالأوبئة المتجددة مثل الكوليرا وحمى الضنك حصدت أرواحًا عديدة في ولايات مختلفة وسط ضعف الاستجابة الصحية وغياب حملات التوعية الوقائية الأمر الذي جعل هذه الأمراض تتحول من أزمات صحية عابرة إلى كوارث إنسانية صامتة.
في كل هذة الكوارث يتكرر المشهد ذاته *غياب بيانات رسمية دقيقة* مقابل اعتماد المواطنين على ما يصدر عن المنظمات الدولية أو تقارير الإعلام الخارجي.
هذة الكوارث توضح بجلاء حجم الفجوة بين المأساة الإنسانية والقدرة المؤسسية على الاستجابة.
لكن السؤال الأوسع يتمثل في ما إذا كانت الحرب الدائرة في السودان قد دفعت الحكومة إلى الانشغال بالمجهود الحربي على حساب أولويات أخرى. فالمؤسسات الرسمية المثقلة بمتطلبات الحرب من تعبئة عسكرية وإنفاق مالي وضغوط سياسية بدت وكأنها جعلت من الوضوح والشفافية في القضايا الإنسانية شأنًا ثانويًا.
هذا الوضع أوجد فراغًا في إدارة الكوارث حيث تغيب البيانات الدقيقة ولا يُسمع صوت الدولة إلا في حدود ضيقة بينما تتولى الأطراف الدولية ملء ذلك الفراغ بالمعلومات والإحصاءات.
الملاحظ أن الخطاب الرسمي السوداني ظل غائبًا أو على الأقل محدودًا في مواجهة هذه الأحداث فعلى عكس ما جرت عليه الأعراف الدولية من سرعة إصدار بيانات رسمية أو أرقام أولية بدا أن صمت الدولة يفسح المجال للمنظمات الدولية لتكون المصدر الرئيسي للمعلومة وهنا يظهر نوع من المفارقة فبينما تتحمل الحكومة بحكم موقعها مسؤولية إدارة الكوارث والتواصل حولها أصبح الرأي العام يعتمد بصورة أكبر على الخارج لمعرفة أعداد الضحايا وتفاصيل المآسي.
هذا المشهد يطرح أسئلة أعمق من مجرد غياب بيان صحفي
هل يعكس ذلك ضعفًا في أدوات الدولة على جمع وتدقيق المعلومات أم أنه تعبير عن أولويات سياسية واقتصادية جعلت إدارة الأزمات الإنسانية في مرتبة متأخرة.
مهما يكن التفسير فإن تكرار مثل هذه التقاطعات بين الكارثة والصمت الرسمي وبين الداخل والخارج يعيد طرح النقاش حول دور الدولة في زمن الأزمات فالمنظمات الدولية قد توفر الأرقام والدعم لكن وجود الدولة كإطار جامع لمواطنيها يبقى الركيزة الأساسية.
إن مأساة المهاجرين في البحر ومأساة تراسين في الجبل وأزمات الكوليرا وحمى الضنك في المدن والولايات ليست أحداثًا معزولة بل إشارات متكررة إلى أن الصمت الرسمي لم يعد مجرد غياب كلام بل أصبح جزءًا من مشهد أوسع يحتاج إلى مراجعة عميقة.
هذا التجاهل يترك فراغاً واسعاً يُملأ بالشائعات والتقديرات غير المؤكدة وهو ما يزيد من هشاشة ثقة المواطن في دولته.
وحتى في أقسى اللحظات فإن إصدار بيانات تعزية لأسر الضحايا والاعتراف الرسمي بمصابهم ليس مجرد إجراء بروتوكولي بل رسالة إنسانية تقول للشعب إن حكومته تشاركه الحزن وتقف إلى جانبه، لا بعيدًا عنه.
إن التجارب أثبتت أن الكوارث لا تدار بالصمت ولا تُعالج بالغياب بل بالوضوح والشفافية والتواصل مع المواطنين. فالمعلومة في زمن الأزمات ليست مجرد رقم بل هي جسر ثقة بين الدولة وشعبها ولعل ما يحتاجه السودان اليوم وسط هذه المحن هو أن تعيد الحكومة النظر في طريقة تعاملها مع الرأي العام وألا تجعل من الحرب ذريعة لتغييب الشفافية في القضايا الإنسانية. فالاعتراف بالكارثة وتوضيح حجمها والإفصاح عن الأرقام قد لا يوقف الألم لكنه يمنح المواطنين شعورًا بأن دولتهم معهم لا عنهم والأهم ألا يُترك الشعب ليستقي أخبار كوارث بلاده من المنظمات الخارجية قبل أن يسمعها من دولته.
إن الأزمات مهما اشتدت تظل قابلة للإدارة إذا توفرت الإرادة السياسية.
ما يحتاجه السودان اليوم ليس فقط مواجهة آثار الحرب أو الكوارث الطبيعية والصحية بل إعادة ترميم العلاقة بين الدولة ومواطنيها عبر الوضوح والمصارحة فالتواصل الصادق مع الرأي العام هو الخطوة الأولى نحو بناء ثقة تُعين الدولة على إدارة الأزمات بكفاءة وتُطمئن المواطن.
صمت الدولة عن المآسي لا يمكن أن يُعوَّض بحديث المنظمات الدولية لأن واجب الدولة أن تتكلم وتوضح وتقترب من آلام شعبها.