السودان : خيارات البرهان ومسارات الرهان

الخرطوم : ون كليك نيوز
كتب سامي دفع الله إبراهيم : علاقات البرهان بواشنطن
منذ اندلاع الحرب في السودان ظلت العلاقة بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان وواشنطن واحدة من أكثر الملفات غموضاً وإثارة للتساؤلات غير أن تتبّع ثلاث محطات مفصلية يظهر بوضوح أن الدور الأمريكي لم يكن مجرد مراقب للأحداث بل لاعب أساسي في تشكيل المسار السياسي والأمني الذي يقف عليه السودان اليوم هذه المحطات الثلاث رسمت ما بات يُعرف بالمسار الثالث وهو توازن دقيق بين مطالب واشنطن والرباعية ورؤية البرهان.
المحطة الأولى كانت في أغسطس 2023 عندما تمكن البرهان من الخروج من مقر القيادة العامة في عملية معقدة شاركت فيها أجهزة المخابرات الأمريكية والمصرية ونفذها عملياً عناصر من القوات الخاصة الأوكرانية وفق ما كشفته وول ستريت جورنال لم تكن العملية مجرد إنقاذ لقائد محاصر بل إشارة مبكرة إلى أن واشنطن ترى في بقاء البرهان ضرورة لمعاداتها الإقليمية.
المحطة الثانية جاءت في سبتمبر 2024 حين التقى البرهان في نيويورك بمستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان ومسؤولين من وكالة الاستخبارات المركزية ورغم غياب التفاصيل الكاملة لما دار إلا أن ما تلاه كان واضحاً فقد تحررت سنار والجزيرة ومدني والخرطوم في تطور ميداني يعكس على الأرجح مستوى أعلى من التعاون الاستخباراتي واللوجستي الذي منح البرهان تفوقاً لم يكن متاحاً قبل ذلك اللقاء.
أما المحطة الثالثة فكانت في أغسطس 2025 حين التقى البرهان في سويسرا بالمسؤول الأمريكي مسعد بولس الذي حمل رؤية متكاملة لا تقتصر على وقف إطلاق النار بل تمتد إلى شكل الحكم ودور الجيش وإعادة الهيكلة والمصالح المشتركة والضمانات المتبادلة هذا اللقاء دفع نحو صيغة سياسية جديدة ليست تماماً “لا للحرب” وليست تماماً “بل بس” بل خليطاً واقعياً بينهما.
هذا المسار كما تجلى في بيان الرباعية لاحقاً جاء مطابقاً تقريباً لما طرح في لقاء البرهان بولس واشتمل على النقاط الآتية:
إبعاد الإسلاميين عن مفاصل الدولة والمنظومة العسكرية
إخراج الجيش من السلطة التنفيذية مع الحفاظ على دوره السيادي
استعادة الحكم المدني الديموقراطي عبر حكومة تنفيذية مدنية
دمج الحركات المسلحة والدعم السريع في جيش موحد وفق ترتيبات
إبعاد الدعم السريع عن السياسة وتفكيك قوته العسكرية
وفي مقابل هذه الخطوات يحصل السودان والبرهان على امتيازات استراتيجية واضحة:
شراكة أمنية وعسكرية مع الولايات المتحدة
تعزيز دور السودان في مكافحة الإرهاب وأمن البحر الأحمر وضبط الهجرة
استثمارات أمريكية واسعة في التعدين وإعادة الإعمار
ضمانات سياسية وأمنية ورفع العقوبات
الابتعاد عن محور روسيا الصين إيران
وضع مسار مستقبلي لإكمال التطبيع ضمن اتفاقيات أبراهام
كما أن إشراك قطر وتركيا في جهود إنهاء الحرب لم يكن خياراً عشوائياً بل توجهاً محسوباً فهاتان الدولتان تمتلكان قدرة عملية على كبح نفوذ الإسلاميين وضبط تياراتهم إضافة إلى الدعم العسكري والاستخباراتي الذي تقدمانه للجيش بعلم ورضا الرياض وواشنطن والقاهرة.
الخلاصة أن المشهد الحالي ليس وليد الأسابيع الأخيرة بل نتيجة تحركات بعيدة عن الأضواء بدأت منذ 2023 وتطورت تدريجياً حتى وصلت إلى صياغة معادلة جديدة للعلاقة بين السودان والولايات المتحدة وقد أكدت واشنطن عبر مسؤولين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري حقيقتين أساسيتين:
الأولى أن البرهان يُنظر إليه كشخص قادر على قيادة السودان نحو الاستقرار
الثانية أن السودان بات يُعامل كحليف حساس ومؤثر في المصالح الأمريكية
وعليه فإن وصول البرهان إلي هذا المسار لم يكن مصادفة بل حصيلة ترتيبات مبكرة مع واشنطن والرياض والقاهرة وما نشهده الآن هو الحصاد الطبيعي لمسار طويل بُني بتأن وصبر ويجري تنفيذه ضمن رؤية سياسية واقعية توازن بين ضرورات الأمن ومقتضيات الدولة الحديثة ومستقبل الانتقال المدني.



