هل حانت اللحظة الحاسمة في حرب السودان

الخرطوم : ون كليك نيوز
كتب الأستاذ التجاني عبد القادر حامد : هل حانت “اللحظة الحاسمة” في حرب السودان؟
(شيءٌ من التاريخ وقليلٌ من السياسة)
لعل من أكبر المفاجآت العسكرية في الحرب العالمية الثانية (والتي سقطت على أثرها نظرية الدفاع الأرضي الثابت) هي أن استطاع الجيش الألماني-في هجومه على الجبهة الفرنسية-أن يقوم بحركة التفاف خاطفة وغير متوقعة فيخترق الحدود الفرنسية الشمالية عن طريق بلجيكا-متجنباً خط “ماجينو”، ويجعل فرنسا تركع على ركبتيها! (وخط ماجينو عبارة عن استحكامات خرسانية تحت أرضية يبلغ طولها ثلاثمائة ميل على طول الحدود الفرنسية الألمانية، وقد استغرق بناؤها عشر سنوات من الأعمال الحفرية العميقة).
وبينما كانت قوات ألمانيا البرية لا تفصلها عن العاصمة باريس إلا بضعة أميال، وبينما كانت الطائرات الألمانية تسيطر على سماء فرنسا، وصل وفد بريطاني بقيادة تشرشل (يصحبه وزير الحربية ورئيس اركان الحرب) في مهمة عاجلة للتعرف على ما يمكن فعله لدعم القيادة الفرنسية والتي كانت تترنح على حافة الانهيار المعنوي والعسكري. وجد الوفد البريطاني أن حلفاءه الفرنسيين في حالة من الارتباك والهلع، ووجد أن مقر القيادة الفرنسية العليا التي تدير دفة الحرب (ويضم رئيس الوزراء وكبار قادة المؤسسة العسكرية) ليس به غير “جهاز هاتف واحد أقيم في دورة المياه!! وأن ذلك الجهاز كان مشغولاً دائماً من جراء التأخير في تأمين الاتصالات، ومن جراء الصراخ المتكرر”!
في ذلك الاجتماع طالب القادة الفرنسيون من أصدقائهم وحلفائهم البريطانيين إرسال ما يمكن من نجدات، وفى مقدمتها “سرب” من الطائرات البريطانية المقاتلة، والتي يجب أن يقذف بها في المعركة بصورة عاجلة، باعتبار أن تلك هي “اللحظة الحاسمة” التي سيتوقف عليها مصير الجبهة الفرنسية، كما سيتوقف عليها مصير الأمن القومي للحليفين معاً. ولكن الوفد البريطاني كانت له حسابات أخرى جعلته يتوهم بإمكانية الفصل بين الأمن القومي الفرنسي والبريطاني. فلم يتردد-بناء على ذلك الوهم- أن يقول لأصدقائه الفرنسيين- في صفاقة صادمة- أن تلك اللحظة ليست هي اللحظة الحاسمة، وأن المقاتلات البريطانية ستبقى في بريطانيا، وأنهم لن يفرطوا فيها، وأن التخلي عن طائراتهم يعنى القضاء على فرصتهم في الحياة. كان على الفرنسيين عندئذ أن يتجرعوا مرارة الهزيمة العسكرية أمام العدو النازي، كما كان عليهم أن يتجرعوا كذلك مرارة الخذلان من قبل أصدقائهم البريطانيين. (وقد تأكد فيما بعد أن بريطانيا قد ارتكبت-بموقفها ذلك- خطأ استراتيجياً كبيراً، وأنها ستدفع ثمناً باهظا نتيجة لذلك الخطأ-كما سيتضح لاحقاً).
ومع نهاية ذلك الاجتماع التاريخي العجيب انتهت علاقة المصير المشترك بين الحليفين-بريطانيا وفرنسا، كما تغيرت بصورة كاملة موازين القوى لصالح ألمانيا النازية. وسرعان ما اجتاح الجيش الألماني الأراضي الفرنسية (مايو-يونيو 1940)، وسرعان ما استسلمت فرنسا بعد ستة أسابيع فقط من المقاومة (22 يونيو 1940). عندها اضطر رئيس الوزراء الفرنسي بول رينو (Paul Reynaud, 1878-1966) للاستقالة تحت ضغوط سياسية وعسكرية ليخلفه الجنرال فيليب بيتان الذي وقع شروط الاستسلام مع ألمانيا النازية-موجهاً من الخلف طعنة قاتلة لحلفائه البريطانيين، ومرحباً بالشروط الألمانية المذلة التي قسمت بموجبها فرنسا الى قسمين: فرنسا شمالية تحت الاحتلال النازي، وفرنسا جنوبية تركت للجنرال بيتان ليحكمها من مدينة فيشى الصغيرة في جنوب فرنسا، (مع ملاحظة أن الجنرال ديغول قد رفض الهزيمة وهرب ليقود المقاومة من الخارج).
أما بريطانيا- التي تُركت لتواجه مصيرها منفردة- فسرعان ما أدركت أن تفكك الدولة الفرنسية لن يخدم مصالحها، بل إنه في الواقع سيمثل خطراً أمنياً وعسكرياً جديداً يضاف الى الخطر الألماني. فإذا كانت القوات الفرنسية قد أنهت قتالها ضد ألمانيا-وهي نهاية حزينة ومؤسفة- ولكنها ليست نهاية الأحزان، إذ من الراجح أنها ستُسلم أسلحتها وذخائرها-طوعاً أو كرهاً- الى القوات الألمانية، وستضطر بريطانيا لمواجهة الجيش الألماني المنتصر بكامل أسلحته ومعداته، مضافاً اليه ما تبقى من أسلحة ومعدات الجيش الفرنسي المستسلم- خاصة الأسطول الفرنسي العملاق المنتشر في أصقاع العالم والذي لم يدخل المعركة بعد.
أدركت بريطانيا أن العدو الألماني المنتصر سيستخدم الأسطول الفرنسي لتعزيز موقفه الحربي، وإذا انضم الأسطول الفرنسي إلى الأسطولين الألماني والايطالي فسيشكلان خطراً وجودياً لبريطانيا. كانت بريطانيا تدرك أن الاسطول الفرنسي يحتوي على كمية كبيرة من السفن الحربية والغواصات والتي تسيطر على العديد من المواقع الاستراتيجية خارج فرنسا، خاصة في شمال أفريقيا (الجزائر والمغرب ومصر وجنوب شرق آسيا). فما كان من الحربية البريطانية إلا أن تقرر-على مضض- الاستيلاء العاجل على الاسطول الفرنسي أو تعطيله أو تدميره إذا اقتضى الأمر. وابلغ القادة الميدانيون بأن “حكومة جلالته مصممة على أنه في حال عدم موافقة الفرنسيين على الاحتمالات التي تعرضونها فيجب اغراق قطعهم البحرية وتدميرها”. ودارت المعارك بين الحليفين الصديقين، وطفق البحارة الفرنسيون والبريطانيون يخرقون سفنهم الحربية بأيديهم حتى لا تقع في أيدي العدو، بينما كان العدو يفرك يديه من الفرح!
وبعد شهر واحد من سقوط باريس شن الطيران الألماني هجوما كاسحاً على لندن-كما كان متوقعا. وفى ضربات خاطفة استطاع ان يخترق كل خطوط بريطانيا الدفاعية تقريبا، وأن يدمر مطاراتها ومصانع طائراتها وسككها الحديدية والأرصفة، وأن تستمر الغارات الجوية في سماء لندن في وضح النهار لمدة عشرة أيام، وأن تخسر القيادة البريطانية في أسبوعين ربع رجالها في السلاح الجوي بعد أن دُمرت قرابة الخمسمائة من طائراتهم.
وهذه كما ترى نتيجة كارثية بكل المقاييس؛ فبدلاً عن قيام الطائرات البريطانية بملاقاة القوات الألمانية في سماء باريس (كما طلب منهم)، فقد أُجبرت لملاقاتهم في سماء لندن؛ وبدلاً من أن تفقد بريطانيا بضع من طائراتها لصد الهجوم على فرنسا، فقدت ثلث قواتها الجوية في الدفاع عن لندن، وبدلاً من القتال إلى جنب حليفتها فرنسا ضد المقاتلين الألمان، أجبرت على الدخول في معركة ضد الأسطول الفرنسي-الصديق- حتى لا يستخدم ضدها من قبل الجيش الألماني والإيطالي. ولولا تدخل الرئيس الأمريكي-روزفلت- لصالح بريطانيا في “اللحظة الحاسمة” لسقطت لندن أمام الغزو النازي كما سقطت باريس.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فهل حانت “اللحظة الحاسمة” في حرب السودان؟ وهل سيتخذ حلفاؤه وجيرانه موقف الانخذال البريطاني أم موقف النجدة الأمريكية؟ وهل سيتخذ الفريق البرهان موقف الجنرال بيتان الاستسلامي، أم الجنرال ديغول المقاوم؟ وإذا تفككت الدولة في السودان وتوسع فيه نطاق الحرب، هل ستنعم دول الإقليم بالأمن والاستقرار وتستمر الأحوال على طبيعتها، أم أن خرائط الإقليم سيُعاد تشكيلها- كما يرغب ناتنياهو وآخرون؟
اللحظة الحاسمة في معركة السودان
حينما خسر الجيش السوداني معركة الفاشر (أكتوبر 2025)، ومعركة بابنوسة (نوفمبر 2025)، ثم انسحب من منطقة النفط في هيجليج (ديسمبر 2025)، لم تبق لديه-بحسب السيناريو الذي يدفع به بعض المتشائمين- إلا معركة واحدة في مدينة الأبيض، فإذا خسرها فإن ذلك الخسران سيمكن قوات الميليشيا (ومحركيها) من الاستيلاء التام على ولايتي دارفور وكردفان في غرب السودان، كما سيمهد لها الطريق لتزحف نحو العاصمة الخرطوم، ثم إلى العاصمة الجديدة(بورتسودان)على الضفة الغربية للبحر الأحمر- على مسمع ومرأى من الأخوين الكبيرين-مصر والمملكة السعودية. وهذا كما لا يخفى سيناريو فظيع.
أما السيناريو الآخر الأكثر فظاعة فهو أن يجبر الجيش السوداني على الاستسلام، وتفكك الدولة في مرحلة من مراحل الهزائم العسكرية المتكررة والخذلان الاقليمي والدولي، وأن يقوم الفريق البرهان بدور مماثل للدور الذي قام به الجنرال الفرنسي فيليب بيتان-لا سمح الله- فتُلحق بعض قواته ومعداته ومطاراته-طوعاً أو كرهاً- بقوات الميليشيا، ويتحول بعضها الآخر-غبينة وثأراً- إلى مليشيات مضادة. ثم تتناسل المليشيات (ما بين الصحراء الليبية إلى البحر الأحمر)، فتستنصر كل مليشيا بدولة من دول الجوار (غرباً أو جنوباً أو شرقا) لتجد لها معسكراً للتمويل والتدريب والتسليح. في هذه الحالة فان الأخوين الكبيرين (ومعهما المجتمع الدولي-إن وجد) سيكتشفان -بعد فوات الأوان- أن طبيعة الصراع في السودان قد تغيرت، وأن قوى خارجية كثيرة صارت تغذيه وتوسع نطاقه، وأنه قد صار يهدد استقرار المنطقة وأمنها الإقليمي. سيكتشف الجاران الكبيران-بعد فوات الأوان أيضاً- أن خير طريقة للدفاع عن أمنهما كانت تكمن في تمكين السودان من الدفاع عن نفسه في “اللحظة الحاسمة” حينما كان يدافع عن وجوده بين الحياة والموت- في الفاشر وبابنوسة وهيجليج والأبيض؛ سيكتشفان أن ظهر مصر والسعودية قد انكشف حينما انكسر ظهر السودان.
وحكمة أخيرة:
رأى الرئيس الأمريكي روزفلت – إبان الحرب العالمية الثانية- أن يشرح لمواطنيه كيف أن الأمن القومي الأمريكي لا يتجزأ عن أمن بريطانيا، فقال لهم:
“لنتصور أن بيت جارى قد اشتعلت فيه النيران، وكان لدى خرطوم طويل في حديقتي…، وكان في وسعه إذا أخذ خرطوم حديقتي ووصله بصنبور المياه عنده أن يطفئ النار المشتعلة. فماذا تظنون أن على أن افعل؟ أنني لا أقول له في مثل هذه الحالة: اسمع يا جارى، إن خرطوم حديقتي قد كلفني خمسة عشر دولاراً، وعليك أن تدفع ثمنه أولاً. إنني لا أقول له ذلك وإنما أقول: أنا لا أريد الدولارات الخمسة عشر، وإنما أريد خرطومي بعد أن تطفئ النار”. …….”ليس هناك من شك لدى أي أمريكي أن خير طريقة فورية للدفاع عن الولايات المتحدة، هي في نجاح بريطانيا العظمى في الدفاع عن نفسها”.



